nubian blogger

Friday, February 03, 2006

إستراتيجية رمسيس- نفرتاري مدخلنا الصحيح إلى السودان وإفريقيا

إستراتيجية رمسيس- نفرتاري مدخلنا الصحيح إلى السودان وإفريقيا


حجاج حسن ادول

أرى أننا، خاصة منذ الخمسينات ابتعدنا عن الفهم الصحيح للسودان، ذلك القطر الشقيق، وبالتالي فقدنا القدرة على فهم إفريقيا جنوب الصحراء كلها. فكل أمورنا ناحية الجنوب مبنية على ردود أفعال وقتية. أغلبها خاطئ وأقلها صحيح. والصحيح القليل لا ينشئ استراتيجية متكاملة. بل هو ضائع وسط الكثير الخاطئ.
أغلبنا ينسى أن النيل إفريقي جنوبي المنبع. كما كدنا أن ننسى أننا دولة إفريقية، وأن البعد الإستراتيجي الإفريقي هام لمصر ولا يقل أهمية عن البعد الاستراتيجي العربي أو بعد البحر المتوسط. نتذكر فقط حين تهب المشاكل. ونحن نمتلك من قبل الميلاد استراتيجية جنوبية متكاملة وضحت تماماً في بعض الأسرات الفرعونية القديمة. بل أقول أنها نُحِتتْ وصُوّرتْ في ضخامة رائعة نراها بالبَصر ولا نفهمها لركود البَصيرة. إنها معبدا أبي سمبل. ذلك المعبد الفرعوني الوحيد في ثنائيته، معبد رمسيس- نفرتاري لم يكن اختيار موقع المعبدين اختيارا عشوائياً، ولم تكن الثنائية فيه اعتباطاً، ولم يكن إطلالهما على النيل مجرد مَنْظَرَة. إن المعبدين رسالة استراتيجية علمية عملية.
المعبدان كانا في عصرهما الذهبي نواة واحدة. حولهما الكهنة ورجال العلوم الرفيعة وزحام من جوقات المنشدين والمرتلين والموسيقيين والفنانين التشكيليين. ثم قطاعات الخدمات عالية المستوى والتي تعتني بكل هؤلاء المشاركين في احتفالات المعبدين الدينية والدنيوية، من ملابس وحلى وأدوات تجميل الخ.
أى أن المنطقة كلها كانت جامعة مفتوحة، كانت مدينة علمية دينية في أجواء ثقافية رفيعة. مناخها جنوبي يحوى سكان المنطقة من نوبيين وغير نوبيين من كل أنحاء مصر. وقطعاً جذبت من الجنوب الإفريقى عطشى الفنون والعلوم الدينية وغير الدينية. فالمكان موجه أصلاً إليهم. يأتونها تلاميذاً ويعودون إلى بلدانهم وقبائلهم الجنوبية وقد تمصّرت وتنوّبت ثقافاتهم حاملين عرفانا لمصر متشربين بثقافتها. وبذلك صاروا قلاعاً مصرية تحمى حدود ومصالح مصر من داخل بلدانهم المختلفة.
ودلالة المعبد الصغير، معبد نفرتاري، يشير لأعماق وجوانب هامة. فلأول ولآخر مرّة في تاريخ الفراعين يتم إنشاء معبد لامرأة ويُجسّد تمثالها بنفس حجم الفرعون نفسه! ونعلم أن نفرتاري ليست من أصول الأسر الحاكمة. والرأي الساحق أنها من مملكة كوش النوبية، ولم يكن وقتها اسم السودان قد ظهر. أى أن نفرتاري كانت تمثل الجنوب الإفريقي. أي البعد الإستراتيجي لمصر وعليه فإن أهمية نفرتاري عند زوجها رمسيس الثاني ليست فقط لجمالها، بل لأهمية قبائلها الممتدة حتى جنوبي الجندل الرابع. فحب رمسيس الثاني لها هو حب سياسي بالإضافة لكونه حب لزوجته النوبية المفضلة. لذا أقام معبدها فى الحدود الجنوبية ليقول لقبائلها.. إننى أقدركم وأحترمكم بدليل مكانة ابنتكم عندى، وأنا فرعون مصر والممثل لها. فباتحاد رمسيس بزوجته الجنوبية يقول لهم.. إننا متحدون. الشمال والجنوب لهما الوحدة كما إتحدتُ أنا ونفرتاري. الجنوب والشمال يجب أن يكونا أسرة واحدة فى مصلحة مشتركة. أليس هذا ما نردده الآن حول ضرورة وحدة قطرى وادى النيل مصر والسودان!
نقترب من زاوية أخرى، معبدي أبو سمبل فى الجنوب. جبروت رائع علمياً وفنياً. دلالات دينية. نقوش ترصد فتوحات الفرعون العظيم حتى لو بالغ فيما وثّـقه. وكل آتٍ من الجنوب الإفريقى إلى مصر، في الأغلب الأعم يأتى من الطريق الرئيسى، مجرى نهر النيل. وقطعاً سيمر أمام المعبدين. يُصْدم بتماثيل فرعون مصر الأربعة. يراهم ضخام يجلسون فى شموخ الواثق الراسخ. يشعر بالضآلة أمام الفرعون المصري. فالفرعون الإله في علو شاهق متسام. فخم مهيب. لسان حاله يقول للآتي.. انظر كم أنا جميل..انظر كم أنا جليل. واعلم كم أنا جبّار متين. لي السطوة ولى الغَلَبة. من عاداني خاسر، ومن والانى رابح.
ولأن رمسيس الثانى يتجسد فى معبده ممثلا لمصر، فإن الآتى الذى ينبهر يترسخ في قلبه وإدراكه أن مصر تعلو ولا يعلى عليها. وأمام معبد نفرتاري الجميل الرقيق، يجد من تمثله متواجدة فى احترام كبير. نفرتاري الملكة الشرعية، فيشعر الجنوبى الآتى من بعيد أنه ليس بغريب، وأن له فى الديار ديار.
إذن من يأتى ويدخل الديار،إن كان زائراً ينبهر، وإن كان غازياً ينهزم من قبل أن يتخطى الحدود. إنها الصدمة الحضارية.
فحكمة تواجد المعبدين بهذه الكيفية وفى هذا المكان، ورسالتهما بالإمكان إيجازهما فى بندين رئيسيين:-
-1
توثيق ارتباط جنوب مصر بشمالها.
2 -
حصن ثقافى يشـع إلى الجنوب. يصادق الممالك والقبائل ويبنى الجسور معهم وأيضا يصيب إرادتهم بالخوار فى حالة العداء.
وإن كان المعبدان قد كونا سابقاً مدينة ثقافية شاملة، فعليه يجب أن نقيم نحن الآن وفى نفس الموقع العبقرى، مدينة تراثية علمية اقتصادية. هدفها الإستراتيجي هو الإشعاع الثقافى جنوباً لتأمين مصر. إشعاع ثقافي يعمل على خلق التآلف والانسجام والفهم الصحيح والمصلحة المشتركة بين مصر والسودان أولاً. ثم بين مصر والسودان كوحدة متجانسة وبين إفريقيا جنوب الصحراء خاصة دول حوض النيل.
ولأن كارهي وحدة إفريقيا يعلمون ذلك. فهم يحاربون التواصل الثقافي بين بلدانها. ونستون تشرشل، ذلك الاستعماري الداهية أشار إلى ذلك فى كتابه (حرب النهر) فقد شبه النيل بنخلة أصولها في الجنوب وشواشيها في دلتا مصر. وقال أنها الرابط للشمال والجنوب الأفريقي. وفك هذه الرابطة النهرية النخيلية يكون في منطقة الساق النوبية. فأتى البكباشي عبد الناصر وحقق ما خطر في ذهن تشرشل بتهجيرأهالي النوبة عنوة سنة 1964!
مدينة أبي سمبل حالياً بها بنيّة أساسية معقولة وجذبها الأثرى لا يقاوم. والمواصلات إليها متواجدة برياً ونهرياً وجوياً. حولها فضاء رحب لم يلوث بعد معمارياً. أي أن المقومات الأساسية موجودة. وتهيئة هذه المدينة لتؤدى نفس دور المعبدين قديماً، يحتاج إلى مشاركة الأزهر الشريف بمدينة بعوث إسلامية تستقبل أبناء إفريقيا المسلمين. وأيضا تتواجد الكنيسة المصرية لتستقبل أبناء إفريقيا المسيحيين. أيضاً مراكز ومعاهد الدراسات الإفريقية للعلوم. ساحات وأماكن لإقامة مهرجانات الفنون الإفريقية والرياضات التراثية والحديثة. هناك تكون القناة التليفزيونية المصرية الموجهة إلى إفريقيا.
هكذا كانت رؤية رمسيس الثانى على حد زعمى. التركيز على المدخل الثقافى. وهو ما تتناحر عليه الدول العظمى حالياً فيما يسمى بالحرب الثقافية. وأشير أخيراً لوقفة تمثال الحرية على بوابة نيويورك ليؤدى نفس دور معبدا أبي سمبل مع الفارق.
وبأحاسيس عميقة بالفخر. أقول إن رمسيس الثانى ومستشاريه كانوا على وعى كامل بأهمية الثقافة استراتيجياً قبل ماتعى ذلك العصور الحديثة. وبأحاسيس عميقة من الأسى، أقول إننا تخلفنا كثيراً عن أسلافنا وصرنا نجهل أهمية البعد الثقافى فى تماسك مصر داخلياً ولحماية مصالحها خارجياً.

أديب نوبي مصري
oddoul33@yahoo.com

0 Comments:

Post a Comment

<< Home